الدبلوماسية الحضرية: التاريخ، التطورات، والمزايا

تُعرف الدبلوماسية الحضرية بالأنشطة والعلاقات بين المدن وغيرها من الكيانات دون الوطنية بهدف تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وثقافية. عبر التاريخ، كانت المدن دائمًا مراكز هامة للتبادل والتفاعل السياسي، وغالبًا ما لعبت دور الوسيط في النزاعات بين طرفين. لكن تشكل الدبلوماسية الحضرية بالمعنى الحديث يمكن إرجاعه بشكل رئيسي إلى منتصف القرن العشرين. كان الجيل الأول من هذه الدبلوماسية الحديثة يعتمد على العلاقات الثنائية الرسمية (غالبًا المدن الشقيقة) التي تكونت حول قضايا ثقافية واقتصادية وإنسانية. على سبيل المثال، عززت برامج التوأمة بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمات مثل “المدن الشقيقة الدولية” في عام 1956 التواصل الثقافي والتبادلات بين الشعوب بين المدن الكبرى.

في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ومع تزايد الهموم العالمية مثل التغيرات المناخية، الهجرة، والتنمية المستدامة، توسعت الدبلوماسية الحضرية وأصبحت أكثر تنظيمًا. منذ السبعينيات، ظهر مفهوم “البارادبلوماسية” (الدبلوماسية الموازية) للأنشطة الخارجية للحكومات المحلية. تدريجيًا، تشكلت شبكات بين المدن تركز على قضايا محددة، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 300 شبكة حضرية نشطة في العالم حتى السنوات الأخيرة. تكونت هذه الشبكات حول محاور محددة: على سبيل المثال، تُعنى شبكة C40 بقادة المدن في تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، تركز الشبكة العالمية للمدن المرنة (Resilient Cities) على المرونة في مواجهة الأزمات، ويُركز مجلس رؤساء البلديات للهجرة (Mayors Migration Council) على قضية الهجرة الحضرية. كما أبدت المنظمات الدولية اهتمامًا بهذا التطور؛ على سبيل المثال، تروج اليونسكو من خلال شبكة المدن الإبداعية (Creative Cities Network) للتعاون بين المدن مع التركيز على الإبداع والثقافة كعامل للتنمية المستدامة. حاليًا، وضعت مؤسسات مثل برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) ومؤتمرات المناخ التابعة للأمم المتحدة الدبلوماسية الحضرية ضمن أجندتها، وزادت من مشاركة المدن في الوثائق العالمية (بما في ذلك أهداف التنمية المستدامة والاتفاقيات المناخية). بشكل عام، تعتبر المدن الآن نفسها فاعلين نشطين في الساحة الدولية، وتشارك بشكل متزايد في القضايا العالمية مثل المناخ، الهجرة، والتنمية الحضرية، بالتوازي مع السياسات الوطنية.

الفاعلون الرئيسيون وشبكات المدن

في العقود الأخيرة، برزت عدة فئات من الفاعلين في الدبلوماسية الحضرية. أولاً، شبكات المدن مثل الاتحاد العالمي للمدن والحكومات المحلية (UCLG) التي تلعب دور منتدى لتبادل وجهات النظر والتدريب بين المدن. كما أن التحالفات الموضوعية مثل C40 (شبكة 100 رئيس بلدية كبرى للعمل المناخي)، وICLEI (المجلس الدولي للحكومات المحلية من أجل الاستدامة)، وشبكة المدن المرنة، ومجلس رؤساء البلديات للهجرة، من أهم المؤسسات التي تتابع بشكل منظم مشاريع المدن المشتركة. هناك أيضًا مجموعات أخرى نشطة على المستويات القارية أو الإقليمية، مثل اتحاد مدن أمريكا اللاتينية (Mercociudades وUCCI) واتحاد رؤساء البلديات للمناطق الاقتصادية الخاصة.

الفئة الثانية هي المدن الرائدة عالميًا. مدن مثل نيويورك، لندن، باريس، طهران، ميونيخ، بوينس آيرس، طوكيو، وغيرها، أنشأت، بفضل سكانها، اقتصادها، وبنيتها التحتية القوية، مكاتب تمثيل وقنصليات اقتصادية، برامج ثقافية، أو مراكز ابتكار في دول أخرى. هذه المدن، إلى جانب عضويتها في الشبكات، تعزز مكانتها في صنع القرار الدولي من خلال “قمم رؤساء البلديات”، المؤتمرات العالمية، والبعثات الاقتصادية.

إلى جانب ذلك، تشارك المؤسسات العالمية والدولية المدن في عمليات صنع القرار. على سبيل المثال، برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، اليونسكو، منظمة الصحة العالمية، وغيرها من الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، تعمل على تسويق السياسات في المجالات الثقافية، الصحية، والتكيف مع الكوارث وغيرها. في السنوات الأخيرة، تم إطلاق مبادرات دولية جديدة مثل “U20” (منتدى مدن G20)، حيث يجتمع رؤساء بلديات مدن دول G20 ويشاركون في صياغة الأجندات العالمية.

مزايا الدبلوماسية الحضرية

تُعد الدبلوماسية الحضرية أداة قوية لتحسين أوضاع المدن في مجالات متعددة:

  • التنمية الاقتصادية: يمكن أن توفر التعاون والشراكات بين المدن فرصًا تجارية واستثمارية. تُظهر الأبحاث أن شبكات التوأمة وغيرها من الاتفاقيات الحضرية تلعب دورًا هامًا في الازدهار الاقتصادي. على سبيل المثال، وفقًا لتقرير جمعية “المدن الشقيقة الدولية” في الولايات المتحدة، ساهمت أنشطة هذه الشبكة في عام 2015 بأكثر من 525 مليون دولار مباشرة في الاقتصاد الأمريكي. يشمل هذا الرقم نفقات سفر السياح الوافدين والفعاليات التجارية، حيث بلغت تكلفة سفر الضيوف الأجانب (الزوار المتبادلين) حوالي 63.7 مليون دولار، وتجاوزت الإيرادات الناتجة عن الفعاليات المستضافة 56.5 مليون دولار. كما تشير الحسابات العالمية إلى أن هذه الشبكة ساهمت مباشرة بحوالي 237 مليون دولار، ومع احتساب تأثير معامل القوة الشرائية (PPP)، بأكثر من 18.5 مليار دولار في الاقتصاد العالمي. لذا، يمكن للدبلوماسية الحضرية أن تعزز التنمية الاقتصادية للمدن من خلال جذب السياح، تشجيع تصدير المنتجات، وتنفيذ مشاريع مشتركة.
  • تعزيز العلامة التجارية والهوية الحضرية: تساعد العلاقات الدولية للمدن في تعزيز هويتها وسمعتها العالمية. في الدبلوماسية الحضرية، تسعى المدن لإبراز تميزها الثقافي، التاريخي، أو الابتكاري. على سبيل المثال، توفر العضوية في برامج مثل “شبكة المدن الإبداعية التابعة لليونسكو” فرصًا للتواصل مع مدن أخرى، مما يتيح للمدن تقديم نفسها كمراكز إبداعية (مثل السينما، الموسيقى، أو التصميم). يعزز هذا التقديم العالمي العلامة التجارية للمدينة ويساعد في جذب المستثمرين الثقافيين، الطلاب، والسياح. كما أن استضافة المهرجانات الثقافية المشتركة (في إطار علاقات التوأمة أو المؤتمرات الدولية) تجعل المدن بارزة في أعين الجمهور العالمي وتخلق تميزًا إيجابيًا.
  • التعاون البيئي والثقافي: العديد من التحديات الحالية عابرة للحدود والمحليات، مثل التغيرات المناخية وضرورة الحفاظ على البيئة. يمكن للمدن من خلال الدبلوماسية الحضرية تقديم حلول مشتركة. تُكرس شبكات مثل C40 جهودها لتبادل التجارب المناخية بين رؤساء البلديات. في عام 2020، أشارت نشرة C40 إلى أن هذه الشبكة تجمع مجموعة من رؤساء البلديات الرواد الذين اتحدوا لمواجهة أزمة المناخ. من خلال هذا التآزر، يمكن للمدن تسريع إجراءات تقليل انبعاثات الكربون، النقل النظيف، أو البنية التحتية الخضراء بالاستفادة من تجارب بعضها البعض. كما تعزز التبادلات الثقافية، مثل تنظيم الفعاليات الفنية والتعليمية المشتركة والتفاعل مع الجاليات المهاجرة، التقارب الثقافي وتعزز التفاهم المتبادل بين المدن؛ على سبيل المثال، غالبًا ما تشارك البلديات الشقيقة في تنظيم المعارض، تبادل الفنانين، والتعاون الطلابي.
  • جذب الاستثمار والسياحة: توفر الدبلوماسية الحضرية منصة مناسبة لتقديم إمكانيات الاستثمار ومعالم الجذب السياحي للمدن. من خلال إقامة علاقات طويلة الأمد مع مدن ومنظمات أجنبية، يمكن للمدن جذب سياح جدد وتعريف المستثمرين الدوليين بفرص الأعمال المتاحة. على سبيل المثال، تُظهر نتائج شبكة التوأمة الأمريكية أن برامج التبادل بين المدن جذبت عددًا كبيرًا من السياح، كما خلقت مئات الوظائف وحققت إيرادات ضريبية كبيرة للاقتصاد الوطني. باختصار، تجعل الدبلوماسية الحضرية المدينة أكثر شهرة على المستوى الدولي، مما يؤدي إلى جذب السياحة والاستثمار.
  • توسيع شبكات التعاون وتبادل التجارب: أحد أهم مزايا الدبلوماسية الحضرية هو الوصول إلى المعرفة والتجارب العالمية. من خلال العضوية في الشبكات الحضرية والمشاركة في التجمعات الدولية (مثل قمم رؤساء البلديات أو Urban20)، يمكن لمديري المدن تبادل الآراء حول التحديات المشتركة مع زملائهم. تُظهر الأبحاث أن التعاون بين المدن يعتمد على نهج عملية وحل المشكلات، وتتجنب المدن المصالح الجيوسياسية لتبادل الحلول العملية. مثال بارز على هذا التبادل هو إنشاء منصات مشتركة خلال الأزمات؛ على سبيل المثال، خلال جائحة كوفيد-19، أطلقت مجموعة من المنظمات مثل UCLG وUN-Habitat منصة “ما بعد الأزمة” لمشاركة صانعي السياسات الحضرية للحلول الناجحة. كما تتيح مبادرات مثل “U20” سماع صوت المدن في المفاوضات العالمية رفيعة المستوى (G20). ونتيجة لذلك، تمكن الشبكات بين المدن من تعزيز قدراتها في العلوم الحضرية، والاستفادة من تجارب المدن الأخرى، وتطبيق حلول مبتكرة في ممارساتها الحضرية.

بهذا الشكل، تُعد الدبلوماسية الحضرية أداة تشغيلية وفعالة لبلديات ومديري المدن. من خلال التخطيط الاستراتيجي لإنشاء مكاتب تمثيل في الخارج، والمشاركة في شبكات المدن الدولية، واستخدام المنصات العالمية، يمكن للمدن تحقيق أهدافها التنموية في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية بكفاءة أكبر. كما أكدت الدراسات والتقارير الدولية على أهمية هذا النهج واستفادة المدن من الفرص الناتجة عن التفاعلات العابرة للحدود.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *