المتطلبات الأساسية لتحقيق دبلوماسية حضرية فعالة على المستوى العالمي

خلال العقد الماضي، برزت أهمية دور المدن في السياسة العالمية بشكل كبير. تظهر التحديات الدولية مثل التغيرات المناخية وجائحة كوفيد-19 آثارها بشكل خاص في المناطق الحضرية، مما حول المدن إلى فاعلين رئيسيين على الساحة العالمية. تشير التقارير إلى أن على المدن الاستثمار في الموارد، والخبرات، والقدرات لإدارة علاقاتها ومسؤولياتها الدولية. ومع ذلك، في الممارسة العملية، تفتقر العديد من البلديات إلى البنية التحتية اللازمة (مثل التدريب المتخصص والميزانيات الكافية) لتوسيع نطاق الدبلوماسية الحضرية. في الوقت نفسه، ازداد الالتزام بالأجندات العالمية مثل أهداف التنمية المستدامة.

 
العلاقات الدولية للمدن
  • التوأمة والتعاون الثنائي: تُعد برامج التوأمة بين المدن من أكثر أدوات الدبلوماسية الحضرية شيوعًا. تسعى العديد من المدن الكبرى حول العالم، من خلال توقيع مذكرات تفاهم التوأمة، إلى تبادلات ثقافية واقتصادية وبيئية مع بعضها البعض. وفقًا لاستطلاع، يشارك حوالي 90% من المدن في برامج التوأمة، وتنظم رحلات مشتركة اقتصادية أو ثقافية. على سبيل المثال، تمتلك برلين (بسكان يبلغ عددهم 3.4 مليون نسمة) 17 مدينة توأم حول العالم، وتخصص سنويًا حوالي مليون يورو لمكتب الدبلوماسية الحضرية الخاص بها. يمكن لهذه التعاونات الثنائية أن تسهل نقل الخبرات والمشاريع المشتركة.
  • الشبكات العالمية للمدن: تنضم العديد من البلديات إلى تحالفات وشبكات مدن دولية. على سبيل المثال، تضم شبكة C40 حوالي 97 مدينة رائدة عالميًا لمواجهة الأزمة المناخية، بينما تمثل UCLG (الاتحاد العالمي للمدن والحكومات المحلية) منظمة عالمية تدافع عن مصالح المدن في المحافل الدولية. تشارك المدن الأعضاء في هذه الشبكات خبراتها وسياساتها في قضايا مشتركة مثل التغير المناخي، التنمية المستدامة، أو البنية التحتية الحضرية. على سبيل المثال، لوس أنجلوس عضو في تحالفات مثل Cities Alliance وميثاق رؤساء البلديات العالمي، وتقدم حلولها الناجحة في القمم الدولية.
  • التبادلات الثقافية والاقتصادية والبيئية: تركز الدبلوماسية الحضرية غالبًا على أبعاد متعددة مثل الاقتصاد، الثقافة، والبيئة. اقتصاديًا، تستفيد المدن من العلاقات الدولية لجذب الاستثمارات الأجنبية، تطوير السياحة، وتوسيع التجارة الخارجية. تُظهر التقارير أن مدنًا مثل لوس أنجلوس ونيويورك تستخدم العلاقات العالمية على نطاق واسع لتطوير الأعمال والاستثمار الأجنبي. ثقافيًا، يساهم تنظيم الأحداث الفنية والتعليمية المشتركة، المشاركة في المعارض الدولية، وتبادل السياح في تعزيز العلاقات. بيئيًا، تنضم المدن إلى اتفاقيات مثل ميثاق رؤساء البلديات العالمي أو شبكة ICLEI لمتابعة مشاريع مناخية مشتركة مثل استخدام الطاقة النظيفة وإدارة الأزمات المحلية.
  • دور المدن في السياسة الخارجية: كفاعلين في الدبلوماسية الموازية، يمكن للمدن المشاركة في قنوات السياسة الخارجية الوطنية الرسمية. تُعرف الدبلوماسية الحضرية كنوع من الدبلوماسية دون الوطنية التي تعمل من خلال التواصل مع فاعلين عالميين-محليين آخرين لتأمين مصالح وأمن المواطنين وتعزيز الهوية الوطنية. من هذا المنظور، لا تعزز الدبلوماسية الحضرية المصالح المحلية فحسب، بل يمكنها أيضًا تحسين الصورة الدولية للبلد. ومع ذلك، يعد التنسيق مع السياسة الخارجية للحكومة المركزية أمرًا ضروريًا؛ يرى الخبراء أن الدبلوماسية الحضرية يجب ألا تعمل بمعزل عن الدبلوماسية الرسمية للدولة، بل يجب أن تكون متكاملة معها ومكملة لها. توصل العديد من رؤساء البلديات إلى أن تحقيق الأهداف الحضرية يتطلب حضورًا دوليًا نشطًا. على سبيل المثال، قال رئيس بلدية بريستول: “عندما انتخبت لهذا المنصب، لم أكن أنوي العمل دوليًا بشكل كبير، لكنني أدركت أن تحقيق الأهداف الحضرية مستحيل دون حضور دولي.”

 
السياسة الحضرية الداخلية
  • التفاعل مع الحكومات الوطنية والأطر القانونية: لتحقيق الدبلوماسية الحضرية، يعد التنسيق بين البلديات والحكومة المركزية أمرًا حيويًا. يجب على المدن العمل ضمن الأطر القانونية الوطنية وتصميم أنشطتها الدولية بما يتماشى مع السياسات الوطنية الكبرى. يؤكد وثيقة استراتيجية الدبلوماسية الحضرية في طوكيو على التعاون والشراكة مع الحكومة المركزية، مشيرة إلى أن الدبلوماسية الحضرية يجب أن تعزز الأهداف الوطنية. تُظهر الدراسات أيضًا أن العلاقات الإيجابية مع الحكومة الوطنية والدعم السياسي من قادة المدن هما من أهم عوامل نجاح الدبلوماسية الحضرية. وبالتالي، يعد توفير المتطلبات القانونية والمؤسسية (مثل سلطات البلدية القانونية لإبرام مذكرات تفاهم دولية أو تنسيق الممثلين الرسميين مع وزارة الخارجية) من المتطلبات الأساسية.
  • الهياكل والمؤسسات التنفيذية: عادةً ما تؤسس البلديات وحدات أو مكاتب مخصصة لإدارة الأنشطة الدولية. تتولى هذه المؤسسات مسؤولية تخطيط ومتابعة التفاعلات الدولية للمدينة، وتشمل مهامها إدارة العلاقات مع المدن التوأم، العضوية في الشبكات العالمية، العلاقات مع البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأجنبية، تنظيم الأحداث والأيام الدولية، تسويق المدينة خارجيًا، وتنسيق زيارات رئيس البلدية الرسمية. يتيح وجود مثل هذه الهياكل التنظيمية للبلديات متابعة أنشطتها الخارجية بشكل منهجي. على سبيل المثال، في بعض المدن الكبرى في ألمانيا وبريطانيا، يضم كل مكتب دولي حضري من 5 إلى 15 موظفًا متخصصًا، ويُقدر ميزانيته السنوية بمئات الآلاف من اليورو.
  • الموارد البشرية والقدرات: يعد تطوير مهارات وخبرات العاملين الحضريين في مجال العلاقات الدولية أمرًا ضروريًا. تشير الأبحاث إلى أن أقل من نصف العاملين في الأنشطة الدولية للمدن قد تلقوا تدريبًا كافيًا. يُعد نقص التدريب المتخصص والخبرة الكافية، إلى جانب غياب برامج تدريبية منسقة، من العوائق الرئيسية. لمعالجة هذا النقص، يُوصى بإقامة دورات متخصصة وورش عمل مهارية (مثل مدارس الدبلوماسية الحضرية أو الدورات الدولية لإدارة المدن). على سبيل المثال، تعد مدرسة الدبلوماسية الحضرية في ملبورن ومجموعات عمل رؤساء البلديات الدولية (GMF) أمثلة على مبادرات التعليم المشترك بين المدن التي تعزز قدرات العاملين المحليين.
  • الموارد المالية: يُعد تخصيص ميزانية كافية للدبلوماسية الحضرية من المتطلبات الأخرى. تحتاج البلديات إلى موارد مالية للمشاركة في القمم والمؤتمرات الدولية، استضافة أو إيفاد وفود أجنبية، وتمويل مشاريع التعاون المشتركة. تُظهر الدراسات أن نقص الميزانية والموارد اللازمة للتفاعلات الدولية هو واحد من أهم ثلاثة عوائق تواجه الدبلوماسية الحضرية. لذلك، يجب تخصيص اعتمادات محددة للبرامج الدولية في ميزانيات المدن.
  • مشاركة المجتمع المدني: لا تؤدي مشاركة المواطنين ودعمهم لشؤون الدبلوماسية الحضرية إلى زيادة الشرعية فحسب، بل توفر أيضًا موارد بشرية قيمة. تبني المدن التي تشمل مجتمعات المهاجرين والأقليات العرقية في برامجها الدولية علامة تجارية عالمية أقوى. على سبيل المثال، ترتبط العديد من المدن الكبرى بشبكات اجتماعية ومنظمات شعبية متنوعة، وتعزز تماسكها الداخلي ونفوذها الخارجي من خلال تمكين هذه المجتمعات المحلية عبر التدريب، بناء القدرات، وتوفير فرص المشاركة.
  • البنية التحتية الرقمية والاتصالات: في عالم اليوم، تعد البنية التحتية للاتصالات القوية (الإنترنت عالي السرعة، مراكز البيانات، أنظمة المعلومات، وأدوات المدن الذكية) ضرورية للدبلوماسية الفعالة. تحسن المدن الذكية خدماتها الحضرية باستخدام تقنيات مثل إنترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي، وأنظمة تحليل البيانات، وتسرع الابتكار من خلال تبادل التكنولوجيا والخبرات مع مدن أخرى. علاوة على ذلك، يمكن أن تجذب العلامة التجارية للمدينة كـ”مدينة ذكية” المستثمرين والمحترفين الدوليين. على سبيل المثال، تمكنت برشلونة، من خلال تقديم نفسها كمركز للتكنولوجيا والابتكار، من جذب شركات أجنبية كبرى وتعزيز اقتصادها السياحي.

 

 
تجارب عالمية ناجحة
  • برشلونة (إسبانيا): من خلال الاستثمار في مشاريع المدن الذكية وخلق علامة تجارية مبتكرة، أصبحت برشلونة معروفة كمضيف لمؤتمرات التكنولوجيا مثل المؤتمر العالمي للجوال (MWC). ساهمت الدبلوماسية الحضرية الذكية في برشلونة في جذب الاستثمارات الدولية وتعزيز السياحة في المدينة..

  • سنغافورة وزيورخ: نجحت كلا المدينتين، من خلال تنفيذ مبادرات شاملة للأمة الذكية (Smart Nation) والبنية التحتية الرقمية المتقدمة، في جذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير الصناعات التكنولوجية، مما عزز صورتها العالمية ونموهما الاقتصادي.
  • لوس أنجلوس ونيويورك (الولايات المتحدة): لوس أنجلوس عضو نشط في شبكات المدن الدولية مثل ميثاق رؤساء البلديات العالمي وCities Alliance، وتدفع أهدافها المناخية والتنمية المستدامة من خلال أحداث مثل أولمبياد 2028. نيويورك، كمضيف للأمم المتحدة، تضم أكثر من 30 قنصلية أجنبية، وتحافظ على حضور قوي في القمم العالمية من خلال مكتبها الدولي المنظم جيدًا.

  • طوكيو (اليابان): صممت طوكيو دبلوماسيتها الحضرية حول ثلاثة أهداف رئيسية: استضافة أولمبياد 2020 بنجاح، معالجة التحديات الحضرية المشتركة، وتحويل طوكيو إلى مدينة عالمية. تؤكد استراتيجية الدبلوماسية الحضرية في طوكيو أن هذه الإجراءات يجب أن تتم بالتعاون الوثيق مع الحكومة المركزية لخدمة الأهداف الوطنية ومصالح سكان طوكيو.

 

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *